التحالفات السيبرانية.. نحو «ناتو رقمي» عالمي؟

التحالفات السيبرانية تمثل اليوم أداة محورية للدفاع والردع في الفضاء الرقمي. لكنها ليست بديلاً عن دولة قوية تقنيًا ومؤسسياً: فـ«الناتو الرقمي» الذي يبنى على أساس تبادل من غير قواعد داخلية متينة سيمنح شركاءً أقوياء نفوذًا يتجاوز دعمهم الفني. الدول الصغيرة والنامية أمام خيارين متكاملين: الاستفادة من هندسة التحالفات لبناء قدرات وطنية حقيقية، أو قبول دور تابع يفرض تبعات سياسية وأمنية بعيدة المدى. الخيار الحكيم هو سياسة انتقائية مترابطة: بناء داخلي + شراكات متعددة الأطراف + حوكمة واضحة تقيِّد وتُوجّه التعاون لصالح الأمن الوطني والتنمية الرقمية المستدامة.، حيث لم تعد السيادة تُقاس فقط بالحدود والجيش، بل بصمود الشبكات، وحماية البنى التحتية الرقمية، وقدرة الدولة على الردع في عالم اللاخط الزمني للهجمات الإلكترونية. أمام هذا الواقع، اتجهت دول وحلقات من الدول إلى تكوين تحالفات رقابية وعسكرية إلكترونية تُشبه — في بعض وظائفها — «ناتو رقمي»؛ شُبكات تعاون تجمع تبادل المعلومات الاستخبارية، التدريبات المشتركة، معايير السلوك، ومخططات بناء القدرات.

 كيف تتشكّل التحالفات السيبرانية الدولية؟ أدواتها وبنيتها

تتشكل التحالفات السيبرانية عبر مزيج عملي من آليات: تبادل الاستخبارات الفنية والتشغيلية، التمرينات والمناورات المشتركة، منصات بناء القدرات، أطر قانونية ومعايير سلوكية، وشراكات بين القطاعين العام والخاص. أمثلة عملية واضحة:

  • مراكز تخصصية وحواضن فكرية تابعة للتحالفات الكبرى: مركز التعاون الدفاعي السيبراني التابع لحلف الناتو (CCDCOE) في تالين يمثل مدارًا للبحوث، التدريب، والتمارين الدولية مثل Locked Shields، ويطور أطرًا ومنهجيات لتشغيل الدفاع الجماعي السيبراني.

  • شبكات الاستخبارات والتقاسم المعلوماتي طويلة الأمد مثل «Five Eyes» توفر قناة لتبادل إشارات استخباراتية وسياسات استجابة سريعة؛ هذه الشبكات تلعب دورًا مماثلاً في العالم الرقمي عبر مشاركة بيانات التهديدات وتحليلاتها.

  • منصات ومعاهد متعددة الأطراف لبناء القدرات التقنية والمؤسسية، مثل Global Forum on Cyber Expertise (GFCE)، التي تعمل كمنصة للتوافق على مشاريع بناء قدرة، ومبارزة الفجوات بين دول لديها موارد واسعة ودول حديثة العهد بالفضاء السيبراني.

  • مبادرات لِحُسن الحُكم والالتزام بقواعد سلوكية، كـParis Call for Trust and Security in Cyberspace، التي تجمع دولًا ومنظمات مدنية وشركات للتوافق على مبادئ تؤطر السلوك في الفضاء الرقمي.

هذه العناصر تُدمَج في تحالفات مرنة تختلف في العمق: فبعضها تحالفات عسكرية-استخباراتية ضيقة المدى، وبعضها منصات فنية مفتوحة لبناء القدرات والتنسيق المدني-الحكومي.

 آليات العمل: من الشراكات التقنية إلى الردع المشترك

التحالفات السيبرانية تعمل عبر ثلاث سواعد عملية متكاملة:

  • التشارك الاستخباري والتكنولوجي: تبادل معلومات مؤشرات التهديد (IOCs)، قواعد التوقيع، وتحليلات الهجوم يمكّن الشركاء من تقليص زمن الكشف والاستجابة. (مثال: قنوات تبادل معلومات بين وحدات CERT وطنية وتحالفات إقليمية).

  • التمارين والاختبارات الحية: تمارين مثل Locked Shields تُحسّن القدرة العملياتية المشتركة، تفرض سيناريوهات تنسيق عبر دول وأجهزة متعددة، وتكشف نقاط ضعف إدارية وتقنية.

  • بناء القدرات القانونية والسياسية: عبر وثائق إصدار التوجيهات، استراتيجيات تشريعية، وتنسيق مواقف دولية (التسليم، التحفظ على الأدلة، التبليغ المشترك، وحتى فرض عقوبات مشتركة في حالات الاعتداءات المعلنة).

هذه الآليات تسمح للتحالفات بالتحول من تبادل معلومات تقني إلى أدوات ردع جيوسيبراني يمكن أن تؤثر في سلوك الخصم أو تحد من أثره.

 انعكاسات التحالفات على الدول الصغيرة والنامية: فرص ومخاطر

التحالفات السبرانية ليست محايدة الأثر؛ للدول الصغيرة والنامية وقع خاص — إيجابًا وسلبيًا — يتطلب قراءة مدروسة:

فوائد ملموسة
  • نقل خبرة وبناء قدرات: الانخراط في شبكات مثل GFCE أو المشاركة في تمارين CCDCOE يوفّر فرص تدريبية ومصادر فنية للمساهمة في رفع مستوى فرق الاستجابة الوطنية.

  • الوصول إلى استخبارات التهديدات: مشاركة خطوط دفاع مشتركة تُمكّن الدول الصغيرة من الوصول إلى رصد مبكّر لتهديدات قد لا تكتشفها وحدها.

  • تعزيز المصداقية والسياسة الخارجية: الانخراط في تحالفات كبرى يمنح وزنًا دبلوماسيًا إضافيًا أمام المانحين والشركاء التجاريين، ويسهل الحصول على دعم فني وتمويلي.

مخاطر وتحديات جدّية
  • التبعّية التكنولوجية والسياسية: الاعتماد المفرط على شركاء أقوى قد يُضعف القدرة على صنع قرار مستقل؛ فقد تُصبح دول صغيرة عرضة لابتزاز سياسي أو شرط توجيهي يفرز اختيارات أمنية لا تتوافق مع مصالحها الوطنية.

  • الاستبعاد من التحالفات «المغلقة»: تحالفات استخباراتية ضيقة (مثال: Five Eyes) قد تبقى مغلقة جغرافيًا وسياسيًا، ما يترك دولًا كثيرة خارج دوائر تبادل المعلومات الحساسة.

  • تحوّلها إلى ساحات تنافس: تبادل التحالفات الكبيرة لوسائل الردع قد يحول أراضي البنية التحتية الرقمية للدول الصغيرة إلى ساحات اختبار أو ممرات جيوستراتيجية تُستغل خلال النزاعات، أو تجعلها هدفًا لردود فعل الخصوم.

  • الفجوات المؤسسية والفنية: غياب قواعد حوكمة داخلية ووحدات فنية متينة يجعل امتصاص فوائد التحالف صعبًا؛ إذ يتطلب التعاون قدرًا من النُّضج المؤسسي لاستقبال الخبرة وإدماجها.

باختصار: يمكن للتحالفات أن تكون قفزة نوعية للدول النامية إذا ما رافقها سياسة ذكية تحفظ الاستقلال وتحوّل الدعم إلى قدرة وطنية دائمة، وإلا فقد تُصبِح سيفًا ذا حدين.

توصيات عملية للدول الصغيرة والنامية وصانعي السياسة

لكي تستثمر الدول الصغيرة والنامية إيجابًا في ديناميكيات التحالفات السيبرانية وتتفادى مخاطرها، نقترح محاور عملية قابلة للتنفيذ:

  1. تبنّي استراتيجيات «تبنّي انتقائي»: لا محاولة الانضمام لكل تحالف، بل اختيار الشركاء والمنصات التي تقدم نقل خبرة ملموسًا (تدريب، منح تقنية، تمارين) مع شروط تحفظ الاستقلال.

  2. بناء قواعد وطنية قوية قبل الانخراط الكامل: تأسيس CERT ودوائر استجابة للحوادث، سياسات أمنية وطنية، وإطار قانوني لحماية البيانات يجعل الاستفادة من الشراكات مستمرة وقابلة للقياس.

  3. المشاركة في المنصات متعددة الأطراف: الانخراط في مبادرات مدنية-حكومية مثل Paris Call أو GFCE يوفر أفقًا أكثر شمولية وأقل ازدواجية من شبكات استخباراتية مغلقة.

  4. الموازنة بين الأمن والخصوصية: عند تبادل الاستخبارات أو التنسيق التقني، يجب الاتفاق على ضوابط قانونية تحمي الخصوصية وتحدد نطاق تبادل البيانات كي لا تتحول الشراكات إلى أدوات مراقبة خارج الإطار القانوني.

  5. تعزيز الشراكات الإقليمية: التحالفات الإقليمية (بيئة تعاون بين دول ذات مصالح متقاربة) تبلغ تأثيرها بسرعة وتُسهِم في معايير تشغيلية متجانسة دون كلفة سياسية كبيرة.

  6. تنويع شركاء التكنولوجيا: تجنب الاعتماد على موردٍ واحد أو اكتمال منظومة تقنية من بلد واحد يقلل من المخاطر الناجمة عن تعطيلات سلسلة التوريد أو ضغوط سياسية.

  7. السياسات الشفافة للانضمام: وضع معايير وطنية واضحة للانضمام إلى منصات أو تبادل معلومات (من يشارك، ماذا يُشارك، وكيف تُستخدم المعلومات) يحفظ الشرعية ويُبقي المحاسبة ممكنة.

محمد الشرشابي
محمد الشرشابي
المقالات: 193

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.