لم تعد الجرائم السيبرانية مجرد مغامرات فردية لهواة يجلسون خلف الشاشات في غرف مظلمة، بل تحولت خلال العقد الأخير إلى اقتصاد أسود ضخم يوازي اقتصادات دول متوسطة الحجم، ويقدَّر حجمه بتريليونات الدولارات سنويًا. هذا الاقتصاد يضم شبكات معقدة من المهاجمين، الوسطاء، والمشترين، ويتخذ من الإنترنت المظلم ساحة رئيسية لإدارة عملياته، حيث تُباع البيانات الشخصية المسروقة، الحسابات المصرفية، وأدوات الاختراق كما لو كانت سلعًا في متجر افتراضي.
الإنترنت المظلم: البورصة السرية للقراصنة
في أعماق الشبكة المظلمة، تنشط منصات تشبه “أسواق الأسهم” لكنها مخصصة للبيانات المسروقة. يمكن العثور على عروض لبيع بيانات بطاقات الائتمان بأسعار تتراوح بين 10 و30 دولارًا للبطاقة، بينما تُعرض قواعد بيانات ضخمة تضم آلاف الحسابات البريدية بمبالغ زهيدة. هذه الأسواق لا تقتصر على بيع المعلومات فقط، بل تقدّم خدمات إضافية مثل تزوير الوثائق الرقمية أو بيع الهويات الافتراضية الكاملة لاستخدامها في الاحتيال المالي.
وسطاء الوصول الأولي: تجار الأبواب الخلفية
أحد أبرز اللاعبين في هذا الاقتصاد هم ما يُعرف بـ وسطاء الوصول الأولي (IABs)، وهم قراصنة متخصصون في اختراق شبكات الشركات والمؤسسات وبيع نقاط الدخول للآخرين. يشبه دورهم في الاقتصاد السيبراني دور “تجار العقارات”، لكن بدلًا من بيع المنازل، يبيعون “أبوابًا خلفية” مفتوحة تتيح لعصابات برامج الفدية أو مجموعات التجسس السيبراني التسلل إلى البنية التحتية الرقمية للمؤسسات. هذه الخدمة تمثل المرحلة الأولى من كثير من الهجمات الكبرى التي شهدها العالم.
برامج الفدية: الشركات المظلمة الأكثر ربحًا
أصبحت هجمات برامج الفدية (Ransomware) الوجه الأكثر بروزًا وربحية في الاقتصاد الأسود. فمن خلال نموذج “البرمجيات كخدمة” أو ما يعرف بـ Ransomware-as-a-Service، بات بإمكان أي مجرم مبتدئ استئجار أدوات متطورة لشن هجوم مقابل نسبة من الأرباح. مجموعات مثل LockBit و BlackCat تدير شبكات معقدة تشبه الشركات الناشئة، بفرق متخصصة في تطوير البرمجيات، التفاوض مع الضحايا، وحتى إدارة حملات إعلامية لبث الرعب والضغط من أجل دفع الفدية.
خدمات الدعم و”المنتجات الجاهزة” للهجمات
اللافت أن هذا الاقتصاد لم يعد مقتصرًا على الخبراء المحترفين، بل أصبح يقدّم خدمات جاهزة للهجوم. يمكن شراء أدوات اختراق كلمات المرور، برمجيات تسجيل ضربات لوحة المفاتيح (Keyloggers)، أو حتى هجمات الحرمان من الخدمة (DDoS) بأسعار في متناول الجميع. بعض هذه العصابات تقدّم خدمة عملاء على مدار الساعة، لتوجيه “الزبائن” المجرمين نحو أفضل طريقة لاستخدام الأدوات وتنفيذ العمليات.
حجم الخسائر العالمية
تقدّر تقارير دولية أن حجم الخسائر الناتجة عن الجرائم السيبرانية سيتجاوز 10 تريليونات دولار سنويًا بحلول عام 2025، وهو رقم يفوق الناتج المحلي الإجمالي لدول صناعية كبرى مثل اليابان وألمانيا. هذا الحجم الهائل من الأموال المسروقة أو المفدية يعكس مدى قوة وانتشار الاقتصاد الأسود الرقمي، ويؤكد أنه لم يعد مجرد نشاط إجرامي عابر بل تهديد استراتيجي للبنية الاقتصادية العالمية.
المستقبل المظلم: الذكاء الاصطناعي والتهديدات القادمة
ما يزيد المشهد خطورة هو دخول الذكاء الاصطناعي على خط الجرائم السيبرانية. إذ بدأت بعض الأدوات الخبيثة تستفيد من تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي في كتابة شيفرات هجومية متطورة أو تحسين عمليات التصيد الإلكتروني. كما يُخشى أن تتحول هذه التقنيات إلى أداة بيد جماعات سياسية أو إرهابية تستغل الاقتصاد الأسود لتحقيق أهداف تتجاوز الربح المالي إلى زعزعة استقرار الدول.