الخصوصية في عصر الذكاء الاصطناعي الوكيلي: التحديات بين الثقة والسيطرة

لم تعد الخصوصية مجرد مسألة جدران وأذونات وسياسات كما كان يُعتقد سابقًا، بل أصبحت في عصر الذكاء الاصطناعي الوكيلي (Agentic AI) مسألة ثقة أكثر من كونها مسألة تحكم. فهذه النماذج لم تعد مجرد أدوات، بل أصبحت كيانات شبه مستقلة تتفاعل مع البيانات والأنظمة والبشر، وتقوم بالتصرف نيابة عن المستخدمين دون إشراف دائم.

الذكاء الاصطناعي الوكيلي وتفسير البيانات

يمثل الذكاء الاصطناعي الوكيلي نقلة نوعية، إذ لا يقتصر على معالجة البيانات فقط، بل يفسرها ويستنتج منها قرارات. فهو يُدير حركة المرور الرقمية، يقترح العلاجات الطبية، يتولى إدارة المحافظ الاستثمارية، ويشارك في إدارة الهوية الرقمية. الأخطر أنه يبني نماذج داخلية ليس فقط عن العالم، بل عن المستخدم نفسه.

وهذا يطرح تحديات كبيرة، فالمسألة لم تعد مرتبطة فقط بمن يملك حق الوصول إلى البيانات، بل بما يستنتجه الذكاء الاصطناعي من تلك البيانات، وما يقرر مشاركته أو حجبه أو إعادة صياغته بما قد لا يتوافق دائمًا مع مصالح المستخدم.

مثال: المساعد الصحي الذكي

على سبيل المثال، يمكن لمساعد صحي يعمل بالذكاء الاصطناعي أن يبدأ بتوصيات بسيطة مثل شرب الماء أو تحسين النوم. لكن مع الوقت، قد يتطور ليحلل نبرة صوت المستخدم بحثًا عن علامات الاكتئاب، أو يتخذ قرارات بشأن جدولة المواعيد الطبية، أو حتى يحجب إشعارات معينة لتقليل التوتر. هنا، لا يفقد المستخدم بياناته فقط، بل يفقد أيضًا القدرة على صياغة روايته الخاصة حول صحته وحياته.

حدود جديدة للخصوصية والثقة

في العلاقات البشرية مثل العلاقة مع الطبيب أو المحامي، توجد ضوابط أخلاقية وقانونية ونفسية تحكم الخصوصية. أما في حالة التعامل مع وكيل ذكي، فإن هذه الحدود تصبح غير واضحة. هل يمكن استدعاء بياناته قانونيًا؟ هل يمكن إخضاعه للتدقيق أو الهندسة العكسية؟ وماذا يحدث إذا طلبت الحكومات أو الشركات الاطلاع على سجلاته؟

لا يوجد حتى الآن مفهوم قانوني واضح لما يمكن تسميته امتياز العميل مع الذكاء الاصطناعي، وإن لم يتم إرساء هذا المفهوم فقد تصبح الثقة الممنوحة لهذه النظم سببًا للندم مستقبلاً، خصوصًا إذا تحولت إلى أرشيف قابل للاستخدام ضد المستخدم.

قصور الأطر القانونية الحالية

القوانين الحالية مثل GDPR وCCPA تفترض أن الأنظمة خطية وتعاملية، في حين أن الذكاء الاصطناعي الوكيلي يعمل في سياقات معقدة، يتذكر ما ننساه، يستنتج ما لم نقله، ويشارك هذه الاستنتاجات أحيانًا بطرق قد تكون نافعة أو خطرة.

الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد مع الذكاء الاصطناعي

لذلك، لم تعد مسألة الخصوصية متعلقة فقط بالتحكم في الوصول، بل أصبحت مرتبطة بإنشاء أنظمة تفهم جوهر الخصوصية وأبعادها الأخلاقية. يجب أن تكون هذه النظم قادرة على تفسير أفعالها بوضوح، وأن تتصرف بما يتماشى مع قيم المستخدم المتغيرة، لا مجرد تعليمات ثابتة.

كما يبرز تحدٍ جوهري: ماذا لو خان الوكيل المستخدم؟ ليس بدافع عدائي، بل نتيجة حوافز صُممت من قبل أطراف أخرى، أو بسبب قوانين جديدة تلغي ولاءاته السابقة.

الخصوصية بين الإنسان والآلة

الذكاء الاصطناعي الوكيلي يجب أن يُعامل ليس كميزة تقنية أو واجهة استخدام فقط، بل ككيان يشارك في الحياة الاجتماعية والمؤسسية. فالخصوصية لم تعد مجرد سرية، بل أصبحت مرتبطة بالمعاملة بالمثل، والمواءمة، والحوكمة الأخلاقية.

إذا فشلنا في ذلك، ستصبح الخصوصية مجرد واجهة شكلية، أما إذا نجحنا، فيمكننا بناء عالم تُدار فيه استقلالية الإنسان والآلة على أساس الانسجام الأخلاقي لا المراقبة والسيطرة.

محمد الشرشابي
محمد الشرشابي
المقالات: 172

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.