موقف ابتهال أبو السعد يفضح التورط السيبراني في الاستعمار الرقمي وخدمة الحروب وقوى الشر 

 التكنولوجيا الحديثة التي يفترض أن تكون شمعةً تُضيء طريق التقدُّم والعلم والمعرفة، تخلت عن تلك المكانة وأصبحت ظلالها تمتدُّ أحيانًا لترسم سجونًا رقميَّةً لا تُرى، لكنَّها تُحكِم قبضتها على الأنفاس،  إذ لم تكشف تصريحاتُ الناشطة ابتهال أبو السعد عن مجرَّد جدلٍ عابر، بل نبشت عن جرحٍ نازفٍ في ضمير الإنسانيَّة: كيف تحوَّل الأمن السيبراني من حارسٍ للخصوصيَّة إلى شرطيٍّ لقمع الحريَّات؟ كيف صارَ أداةً تُشرعِن الاحتلال، وتُعمِّق آلام المظلومين، وتُهندس انتهاكاتٍ تُلبس ثوب “الحماية”؟

لقد تجاوزت القضيةُ مسألةَ تقنيَّةٍ محايدةٍ لتغوصَ في أخلاقيَّاتٍ إنسانيَّة، فالتكنولوجيا بذاتها لا تحمل روحًا شريرةً، لكنَّ الأيدي التي تمسك بها قد تحوِّلُها إلى سلاحٍ فتَّاك، والأمنُ السيبراني، الذي كان يُفترض أن يكون حصنًا ضدَّ القرصنة والاختراقات، صارَ في أيدي بعض الأنظمة مِقصلةً إلكترونيَّةً تُسحَق تحتها كرامة الشعوب، تُراقبُ تحرُّكاتهم، تُسكتُ أصواتهم، وتُحوِّلُ بياناتهم الشخصيَّة إلى أدلَّةٍ تُستخدم ضدهم، إنَّه الوجهُ الآخر للاستعمار: استعمارٌ رقميٌّ لا يحتاجُ إلى دبَّابات، بل إلى خوارزميَّاتٍ غادرة!

والسؤالُ الأكثر إيلامًا: مَن يحمي الضحايا من أداةٍ صُمِّمت أصلاً لحمايتهم؟ حين تتحوَّل أنظمةُ التشفير إلى أدواتِ تعذيبٍ نفسيّ، وحين تُستخدم الثغراتُ الأمنيَّة لاختراق أحلام المقهورين بدلَ إصلاحها، فإنَّ العالمَ بأكمله أمام مفترق طرق، فالحياد التكنولوجي وهمٌ كبير إذا غابَت الرقابةُ الأخلاقيَّة، فالتقدُّم التقنيُّ بدون ضميرٍ إنسانيٍّ هو انحدارٌ حضاريٌّ مُقنَّع.

ربَّما حان الوقت ليقفَ العالمُ أمام هذه المعضلة ليس كمتفرِّجين، بل كحرَّاسٍ لحريَّةٍ أصبحت هشَّةً أمام شاشاتٍ مُظلِمة، لأنَّ الحقَّ في الخصوصيَّة ليس رفاهية، بل هو آخرُ خندقٍ يدافع عن إنسانيتنا المشتركة، فإمَّا أن نُعيد للأمن السيبراني روحَه النبيلة، أو نُسلِّم بأنَّنا صنعنا وحوشًا لا تُهاجم البيانات، بل تُهاجم القِيَم ذاتها.

فقد أثارت تصريحات الناشطة ابتهال أبو السعد جدلًا واسعًا حول استخدام الأنظمة الأمنية، بما فيها أدوات الأمن السيبراني، لقمع الشعوب وتسهيل الاحتلال، وتعميق جروح المظلومين، والمشاركة في سلب حقوقهم ، حيث فضحت تلك الأحداث تحول  الأمن السيبراني من كونة أداة لحماية البشر، إلى سلاح  في أيدي قوى الشر، مما  يسلط الضوء على الأبعاد المظلمة للأمن السيبراني، مما يستلزم يقظة عالمية أمام تحوله إلى أداة حرب وقمع، وهو ما يعني أنه على الرغم من كون التكنولوجيا الحديثة في حد ذاتها محايدة، لكن ليس هناك ما يضمن استمرار هذا الحياد، فالأخلاق دائما هي التي تحدد اتجاهها وتضمن عدم استغلالها في أعمال غير أخلاقية.

دور الأمن السيبراني في الحروب والصراعات
1. الحرب السيبرانية كأداة عسكرية:
– تستخدم الدول تقنيات القرصنة والتجسس لتعطيل بنى الخصوم التحتية، كما حدث في هجمات “ستوكسنت” على المنشآت النووية الإيرانية أو هجمات روسيا على أوكرانيا.
– بعض الشركات الأمنية، مثل “NSO Group” الإسرائيلية، تطور برمجيات تجسس (مثل “بيغاسوس”) لاستهداف نشطاء وصحفيين.

2. المراقبة والقمع السياسي:
– كشفت وثائق “إدوارد سنودن” تعاون وكالات الأمن العالمية (مثل NSA) مع حكومات لمراقبة المواطنين.
– في فلسطين، تتهم إسرائيل باستخدام أنظمة التعرف البيومتري والاختراق لتعقب الفلسطينيين، كما ذكرت أبو السعد في انتقاداتها.

3. توظيف البيانات في الصراعات:
– تُسخر البيانات المسروقة عبر الاختراقات في ابتزاز الخصوم أو تزييف الوعي، كما في تدخلات الانتخابات الأمريكية 2016.

موقف ابتهال أبو السعد: نموذج للتحذير من التوظيف الخبيث للتكنولوجيا
ابتهال أبو السعد، الناشطة التي تعرضت للملاحقة بسبب نشاطها، كشفت كيف تُستخدم التكنولوجيا:
– كأداة قهر: عبر تعقب تحركات الفلسطينيين عبر كاميرات المراقبة والهويات الرقمية.
– لتبرير الاحتلال: بذريعة “مكافحة الإرهاب”، تُفرض أنظمة مراقبة جماعية.
– قمع حرية التعبير: بحجب مواقع إخبارية أو اختراق حسابات ناشطين.

وكانت مايكروسوفت قد فصلت مهندسة البرمجيات المغربية ابتهال أبو السعد وزميلتها فانيا أغراوال بعد احتجاجهما على تزويد الشركة إسرائيل بأنظمة ذكاء اصطناعي تستخدم في إبادة الفلسطينيين بقطاع غزة.

ونقلت وسائل إعلام أن مايكروسوفت فصلت الموظفتين بعد احتجاجهما خلال احتفال الشركة بالذكرى الـ50 لتأسيسها.

المساءلة الأخلاقية: من يتحمل المسؤولية؟
-الحكومات والجيوش: التي تشتري أدوات القرصنة من شركات خاصة.
– الشركات التكنولوجية: مثل “NSO” أو “بالانتير”، التي تبيع برمجيات تجسس لأنظمة استبدادية.
– المجتمع الدولي: لغياب قوانين رادعة ضد استخدام التكنولوجيا في انتهاكات حقوق الإنسان.

نحو سيبرانية أخلاقية
في ظل تصاعد التوظيف الخبيث للأمن السيبراني، يصبح من الضروري:
– فرض رقابة دولية على صادرات التكنولوجيا الأمنية.
– دعم تشريعات تحمي الخصوصية، مثل “GDPR” الأوروبي.
– تضامن عالمي مع ضحايا المراقبة، كالناشطين مثل أبو السعد.

 

 

محمد الشرشابي
محمد الشرشابي
المقالات: 73

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.