في خطوة اعتُبرت انتصارًا لمدافعي الخصوصية الرقمية داخل الاتحاد الأوروبي، أعلنت الحكومة الدنماركية رسميًا سحب مشروع قانون “Chat Control”، الذي كان يهدف إلى تمكين سلطات الاتحاد من فحص الرسائل الخاصة والصور المشفرة لرصد محتوى إساءة معاملة الأطفال عبر الإنترنت. وجاء القرار بعد أن فشل المقترح في حشد أغلبية التأييد بين الدول الأعضاء، ليتحوّل إلى أحد أكثر مشاريع القوانين انقسامًا في التاريخ التشريعي الأوروبي الحديث.
وكانت ألمانيا قد سبقت هذا الموقف في الثامن من أكتوبر الماضي بإعلان رسمي أكدت فيه أنها لن تدعم الخطة الأوروبية، معتبرة أن المشروع «ينتهك المبادئ الدستورية لحماية الحياة الخاصة» ويقوّض الثقة في خدمات الاتصالات المشفرة. وقد تبع الموقف الألماني موجة اعتراضات من منظمات حقوقية وتقنية كبرى، مما دفع كوبنهاغن إلى اتخاذ قرارها النهائي بالتراجع.
خلفية مشروع “Chat Control”: الأمن في مواجهة الخصوصية
انطلقت فكرة Chat Control في أروقة المفوضية الأوروبية عام 2022، كمبادرة لمواجهة انتشار مواد استغلال الأطفال جنسيًا (CSAM) عبر الإنترنت. ورغم النوايا المُعلنة لحماية الأطفال، فإن المشروع كان يتضمن آلية تتيح الفحص الآلي الشامل لجميع الرسائل الخاصة باستخدام خوارزميات ذكاء اصطناعي، حتى في التطبيقات المشفّرة مثل واتساب وسيغنال وتيليغرام.
غير أن خبراء الأمن السيبراني والحقوق الرقمية حذروا من أن مثل هذا الإجراء يعني عمليًا كسر مبدأ التشفير الطرفي (End-to-End Encryption) الذي يمثل حجر الأساس لأمن الاتصالات الحديثة. فبموجب المقترح، تُجبر الشركات على تضمين أدوات مراقبة داخلية قادرة على تحليل محتوى الرسائل قبل تشفيرها أو بعد فكها، ما يحوّل جميع المستخدمين إلى أهداف محتملة للمراقبة.
انقسام أوروبي حول حدود المراقبة
أثار المشروع منذ طرحه انقسامًا حادًا داخل الاتحاد الأوروبي بين من يرى في المراقبة ضرورة لحماية القُصّر، ومن يعتبرها تعديًا على الحقوق الأساسية والحريات المدنية. فبينما دعمت بعض الدول، مثل فرنسا وإسبانيا، فكرة المراقبة الوقائية، تمسكت ألمانيا والنمسا وهولندا والدنمارك بموقف رافض، معتبرة أن الحلول التقنية يجب ألا تُقوِّض البنى الأمنية التي تحمي المواطنين من التتبع والاستغلال.
ووصفت منظمات مثل European Digital Rights (EDRi) وPrivacy International المشروع بأنه “حصان طروادة تشريعي” يفتح الباب أمام مراقبة شاملة لا تختلف جوهريًا عن أساليب الأنظمة الاستبدادية. كما نبّهت شركات تقنية كبرى مثل سيغنال وواتساب إلى أنها قد تضطر للانسحاب من السوق الأوروبية إن تم إقرار التشريع، حفاظًا على مبادئ التشفير الكامل.
انتصار مرحلي لمدافعي الخصوصية
يرى محللون أن تراجع الدنمارك يُعد انتصارًا رمزيًا لحركة الدفاع عن الخصوصية الرقمية في أوروبا، ورسالة واضحة بأن مكافحة الجريمة الإلكترونية يجب ألا تتحول إلى ذريعة لانتهاك الحياة الخاصة للمواطنين. كما يعكس الموقف الأوروبي المتشدد تجاه Chat Control تنامي الوعي التشريعي بخطورة المراقبة التلقائية، خصوصًا في ظل تصاعد الجدل حول الذكاء الاصطناعي والتحليل الآلي للبيانات.
ويرى خبراء أن هذا الانسحاب سيُجبر المفوضية الأوروبية على إعادة صياغة مقترحاتها الأمنية ضمن إطار أكثر توازنًا، بحيث تُعزَّز أدوات حماية الأطفال على الإنترنت دون المساس بالحقوق الأساسية أو تقويض تقنيات التشفير.
وفي الوقت نفسه، يحذر بعض المختصين من أن الجدل لم يُحسم بعد، إذ تسعى بعض الكتل البرلمانية الأوروبية إلى طرح نسخة «مخففة» من التشريع خلال العام المقبل، تُركّز على المراقبة الطوعية بالتعاون مع الشركات، مع منح المستخدمين خيار رفض الفحص التلقائي لمحادثاتهم.
أوروبا بين الأمن والحرية
يمثل الجدل حول Chat Control نموذجًا كلاسيكيًا للصراع بين الأمن الجماعي والحرية الفردية في الفضاء الرقمي. فبينما تسعى الحكومات إلى تعزيز قدراتها على تتبع الجرائم الإلكترونية، تتخوف المجتمعات المدنية من أن يتحول ذلك إلى نظام مراقبة شامل يهدد الأساس الأخلاقي للديمقراطية الأوروبية.
ويبدو أن قرار الدنمارك الأخير لم يكن مجرد تراجع عن مشروع، بل تأكيد على التزام أوروبا بمبدأ الخصوصية كحق أساسي غير قابل للمساومة — وهو مبدأ راسخ منذ إقرار اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) عام 2018، التي جعلت من الاتحاد الأوروبي رائدًا عالميًا في تشريعات حماية الخصوصية.































