التصيّد الاحتيالي.. تهديد يتقن التنكر ويصعب رصده

التصيّد لم يعد رسالة بريدية سيئة الصياغة تطلب تحديث كلمة المرور؛ صار عمليّة استخبارية متكاملة تعتمد على بناء ثقة زائفة تُبنى بعناية لسرقة مفاتيح الدخول أو دفع المستخدم إلى تنفيذ فعل أمني يجعل الشبكة معرضة للاختراق. في قلب هذه الظاهرة أساليب هندسة اجتماعية متطورة تمزج البحث عن الضحية بجمع معلومات مسبق عن المنظمة وموظفيها، ثم توظيف رسائل ومرفقات وروابط تبدو مألوفة ومقنعة بحيث يتوقف تلقّيها عند عتبة الشك لدى معظم الضحايا. التحوّل الأساسي في السنوات الأخيرة أن المهاجمين لا يريدون فقط سرقة كلمة مرور؛ إنهم يريدون باباً خلفياً يبقى مفتوحاً، ومفاتيح سحابة يمكن استخدامها للانتقال الجانبي، وبيانات مالية تكفي لابتزاز المؤسسة أو تحقيق مكاسب مالية فورية.

تقنيات التمويه والإقناع — من الروابط المزيفة إلى الوسطاء المتقنين

تعتمد حملات التصيّد الناجحة مزيجاً من أدوات تقنية وبشرية. يستخدم المهاجمون صفحات مزيفة تحاكي بوابات تسجيل الدخول، نطاقات متقاربة إملائياً، وروابط مختصرة تقود إلى صفحات وسطاء تبدو شرعية. على مستوى الملفات، باتت الأرشفات المضغوطة (ZIP) وحزم المستندات ذات الماكروز وأحياناً ملفات SVG القابلة للبرمجة وسيلة لنقل حمولات خبيثة مضمنة، بينما تُوظّف أطر مثل Evilginx أو تقنيات Adversary-in-the-Middle لاعتراض جلسات المصادقة أو إجبار النظام على التراجع إلى طرق تحقق أضعف. من جانب آخر، استفاد المهاجمون من قدرات الذكاء الاصطناعي لصياغة نصوص إقناعية وتصميم صفحات خداع ذات لغة ومظهر مهنيين، حتى أن بعض الهجمات تستخدم تطبيقات أو أدوات «ذكاء اصطناعي» مُزيفة لترويج برامج تبدو نافعة وتخفي وظائف خبيثة. أما القنوات التي يجري من خلالها الانتشار فتمتد من البريد الإلكتروني إلى الرسائل النصية ومنصات التواصل وصولاً إلى صفحات تنزيل تبدو كواجهات بائعين شرعيين.

المخاطر العملية — خسائر مالية، تسريب بيانات، وركود عملياتي

الثمن الذي تدفعه المؤسسات من جراء هجمات التصيّد يتراوح بين خسائر مالية مباشرة ونفقات استجابة لحوادث طويلة الأمد، وبين أضرار سمعة قد تستمر أشهراً. بمنح المهاجمين وصولاً إلى أنظمة داخلية أو مفاتيح سحابة مخزنة على خوادم نسخ احتياطي، تتحول حادثة سطحية إلى اختراق يمسُّ بيانات العملاء، قواعد الرواتب، أو بنيات افتراضية بأكملها. خطر آخر متصاعد هو الاعتماد على دفاعات بشرية مرهقة: فرق الأمن التي تواجه فيضاً من التنبيهات قد تضطر إلى إسكات قواعد كشف أو تجاهل إشعارات — ما يخلق فرصة للمهاجمين للتمدد دون رادع. في حالات عدة رُصدت عمليات سرقة بيانات وإدخال أحمال فدية أو أدوات سرقة معلومات خلال ساعات من الوصول الأولي، مما يبيّن الطابع الزمني الحرج للاستجابة.

درع عملي — مزيج من تقنيات التخفيف والتدابير الإدارية

لمواجهة هذا الهجوم يجب الجمع بين تقنيات فنية وسياسات إدارية وثقافية. فنياً، يتطلب الأمر بوابات بريدية متقدمة تفحص الروابط والمرفقات في بيئات معزولة، وتطبيق سياسات صارمة لـSPF/DKIM/DMARC مع إعادة كتابة الروابط المشبوهة عند التسليم. على مستوى المصادقة، تُعدّ أساليب المصادقة المقاومة للتصيّد (مثل FIDO/WebAuthn) إلى جانب سياسات الوصول الشرطي وإدارة الأسرار المركزية والدوّار التلقائي للمفاتيح من أهم السدود الدفاعية. كما يجب مراقبة سلوك التطبيقات والبيانات عبر EDR/XDR وCSPM لفصل الأنماط الشاذة مبكراً، وفحص ملفات التهيئة وخوادم النسخ الاحتياطي بحثاً عن مفاتيح مخزنة بصيغة نصية. إدارياً، لا يقل أهميةً عن ذلك تدريب الموظفين عبر محاكاة التصيّد المنتظمة وربطها بعقوبات وإجراءات تصعيد واضحة، إضافة إلى إجراء اختبارات طاولة محاكاة للحوادث وإعداد خطط استجابة جاهزة تتضمن تدوير المفاتيح، وعزل الأنظمة المصابة، والتواصل القانوني والشفافي مع المتضررين. أخيراً، التنسيق مع مزوّدي التهديدات وتبادل مؤشرات الاختراق يسرّع تعطيل قنوات التوزيع ويخفض من أثر الحملات على النطاق الأوسع.

محمد الشرشابي
محمد الشرشابي
المقالات: 207

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


The reCAPTCHA verification period has expired. Please reload the page.