الفضاء، بحدوده المتسعة وقدراته التقنية الهائلة، لم يعد مجرد ساحة للاستكشاف العلمي، بل أصبح امتدادًا للبنية التحتية الحيوية التي تعتمد عليها اقتصادات الدول وأمنها القومي، ومع تزايد عدد الأقمار الصناعية واعتماد الحياة اليومية على تقنياتها (مثل GPS، الاتصالات، الأرصاد الجوية)، يصبح الأمن السيبراني الفضائي ضرورة قصوى لا خيارًا ثانويًا.
وبالتالي لم يعد الدفاع عن الفضاء فقط بالمركبات والصواريخ، بل كذلك بالجدران النارية، والتحليلات التنبؤية، وأدوات الكشف المبكر، فالفجوة بين العالم السيبراني والمدارات الفضائية تضيق يومًا بعد يوم، حيث أصبحت الفضاءات الرقمية والكونية ساحة جديدة للصراعات الحديثة، إذ لم تعد تهديدات الأمن السيبراني حكرًا على المؤسسات الأرضية أو الأنظمة الحكومية، بل امتدّت أذرع القراصنة إلى ما فوق الغلاف الجوي، حيث تدور الأقمار الصناعية وتنقل البيانات الحساسة التي ترتكز عليها البنية التحتية العالمية. من هنا، تتعاظم أهمية الأمن السيبراني الفضائي بوصفه درعًا استراتيجيًا يحمي مقدرات الدول ومكتسبات البشرية في عصر الاعتماد المتزايد على الأنظمة الفضائية.
هل يمكن للقراصنة استهداف الأنظمة الفضائية؟
الإجابة القصيرة: نعم.
ولكن التعمّق في هذه الإجابة يكشف عن تعقيدات مروّعة. فالأنظمة الفضائية — وتشمل الأقمار الصناعية، مركبات الفضاء، أنظمة الملاحة، ومراكز التحكم الأرضية — ليست بمنأى عن التهديدات السيبرانية. بل على العكس، يُنظر إليها اليوم بوصفها أهدافًا استراتيجية مغرية لمجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة، من قراصنة فرديين إلى جماعات تهديد مدعومة من دول.
الهجمات الواقعية: إشارات تحذيرية من الفضاء
في السنوات الأخيرة، ظهرت عدة حوادث تؤكد أن الأقمار الصناعية عرضة للاختراق:
-
في 2007 و2008، وردت تقارير عن تمكّن جهات مجهولة من السيطرة المؤقتة على أقمار صناعية أمريكية.
-
في 2022، تعرضت شبكة الأقمار الصناعية Viasat لهجوم سيبراني واسع النطاق بالتزامن مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، مما أثّر على آلاف المحطات الأرضية في أوروبا.
-
استخدمت جهات تهديد متقدمة مثل APT28 الروسية أدوات سيبرانية لاستهداف البنية التحتية الفضائية ضمن حملات إلكترونية.
مواطن الضعف في البنية التحتية الفضائية
الأنظمة الفضائية تتكون من ثلاثة عناصر أساسية، وكل منها يمثل نقطة ضعف محتملة:
-
العنصر الفضائي: الأقمار الصناعية نفسها التي قد تحتوي على برمجيات غير محدثة أو أجهزة لا يمكن الوصول إليها بسهولة لإصلاح الثغرات.
-
العنصر الأرضي: مراكز التحكم والمحطات الأرضية، والتي غالبًا ما تكون متصلة بالإنترنت أو تعتمد على بروتوكولات قديمة غير آمنة.
-
قنوات الاتصال: الروابط بين الأرض والفضاء، والتي يمكن اعتراضها أو التلاعب بها باستخدام تقنيات “التنصت من بعد” أو الهجوم بإعادة البث (replay attacks).
كيف يحمي الأمن السيبراني الفضاء؟
الأمن السيبراني الفضائي يجمع بين إجراءات تقنية واستراتيجية لتأمين الأنظمة الفضائية. من بين أبرز هذه التدابير:
-
التشفير المتقدم للبيانات بين المحطات الأرضية والأقمار الصناعية لمنع التنصت أو التلاعب.
-
التحقق المتعدد الطبقات عند إرسال الأوامر إلى الأقمار الصناعية.
-
المراقبة المستمرة لكشف السلوكيات غير الاعتيادية التي قد تشير إلى اختراق أو محاولة تسلل.
-
التحديثات الأمنية الدورية، رغم صعوبتها في الفضاء، باستخدام تقنيات مثل التحديث عبر الراديو (OTA).
-
تقنيات العزل السيبراني لتقليل قدرة المخترق على التنقل الأفقي داخل النظام الفضائي.
دور الجهات الدولية والوطنية في تأمين الفضاء
تتعاون وكالات الفضاء والمؤسسات الدفاعية في العديد من الدول لتطوير معايير أمنية موحدة تشمل:
-
وكالة الفضاء الأوروبية (ESA)
-
وكالة ناسا الأمريكية
-
إدارة الأمن السيبراني والبنية التحتية (CISA)
-
مركز التهديدات السيبرانية الفضائية (Space ISAC)
كما بدأت شركات التكنولوجيا الفضائية الخاصة مثل SpaceX وOneWeb في اعتماد سياسات أمنية صارمة ضمن تصميم أنظمتها منذ المراحل الأولى.